وعندما أرى كلماتي قد خرجت من سراديب التردد وجلست في غرف العناوين والسطور، ألملِم رائحة الثقة وأسير في قوافل العبارات، وأحمل فوق أكتافي هموم شعبي ومشاكله وتفاصيل الصمت، الذي يتجرأ ويشحن برودته بسخونة الأحداث. وسرعان ما يصرخ عالياً مروّضاً جميع الحروف في سيرك الاعلام.

لا أختم ذاكرتي بالشمع الأحمر، بل اعتز بأن ذاكرتي تطوي بين رفوفها صوراً وأصواتاً ومحطات ومدناً وأزقة وطرقات مليئة بالوجوه، ومدارس مكتظة بالعناوين الساخرة والحالمة.

علاوة على فضاءات تكشف عن مدى وجع القلب، الذي يحمل القلم والعقل الذي يخضع لبؤس، تتكوّم حوله جثث الخوف والعنف والفقر والحروب الملعونة والمفاوضات العبثية، والباطل الذي أقام المهرجانات الخطابية والحق الذي يجلس على طاولة الغربة يحتسي قهوة القهر!

اعترف أنني عندما عرفت أنه سيصدر العدد "الألف" من صحيفة "المسار" أصبت بالدهشة.. سنوات طويلة، ذكريات، مرايا أقف أمامها.. أتذكر زوجي الكاتب الراحل تميم منصور، حين كتب معظم مقالاته السياسية والاجتماعية في صحيفة "المسار". ناهيك عن معظم كتبه، التي تم نشر بعض فصولها من على صفحات هذه المنصة الإعلامية المرموقة.

وأذكر أن كتاب "مذكرات معلم" كان كتبه على حلقات من على منبر هذه الصحيفة الغرّاء، ووصلت إلى أكثر من أربعين حلقة. ويُعتبر أشهر كتاب كُتب عن وزارة المعارف الإسرائيلية وعن المناهج والواسطات في التعينات.

لقد ابحرت مع "المسار" منذ البدايات ونشرت مئات المقالات، وقد جمعت معظم مقالاتي في كتب فقد أصدرت "المالح في زمن السكر" و"قلم رصاص" و"الحب في الزمن اليمني". وقد نشرت أيضاً في "المسار" عشرات القصص وجمعتها في كتاب "سرير يوسف هيكل" و"مأذون من الليكود".

أعرف أن مصابيح الحنين قد اضيئت في داخلي. ومع أنني ما زلت اعانق الكلمة وارتدي ثياب الاستعداد للكتابة، إلا أنني أشعر أن الكلمة ما زالت مسؤولية، وأنني عقدت حلفاً مع الكلمة التي لم تورثني سوى اليقظة طوال الوقت، والعيش على حافة الأحداث والقلق.

أعترف في العدد الألف من "المسار" أن رئيس التحرير الزميل أسامة محاميد فتح صفحات صحيفة "المسار" بشجاعة ورؤيا ثاقبة، دون أن يتدخل أو يقوم بالرقابة على كتاباتي وكتابات زوجي الرحل تميم منصور، اللهمّ فاشهد.

العدد الألف من صحيفة "المسار" يحمل في باطنه العديد من الوجوه، التي كتبت ورحلت. أذكر من بينها الأصدقاء: أحمد كيوان - أبو ناصر، وشاكر فريد حسن. لكن بقيت كلماتهم تؤرخ لمرحلة هامة وحاسمة في تاريخنا الفلسطيني.

في وطن الوجع والهموم، تبقى الكلمة نافذة نطل من خلالها على أوجاعنا.. نناضل أن نبقى على قيد الفرح والأحلام المسروقة من الغد، لعل وعسى أن يكون الغد أفضل من اليوم.

في مهرجانات الورق والحبر والأقلام، نوزع "المسار" وتاريخنا معها طويل. ولكن نطمئن عندما نجد حروف الابجدية قد أضيئت على باب "المسار"، فادخلوها بسلام آمنين...!!