|
|
|
جواد بولس: نادي الأمل الفلسطيني!التاريخ : 2024-05-25 19:59:49 |لبّيت يوم السبت الفائت دعوة «جمعية نادي الأسير الفلسطيني» لحضور مؤتمرها الثامن في مدينة البيرة. وصلت قاعة المؤتمر في اللحظة التي كان فيها الحضور منتصبا بصمت، إجلالا لعزف النشيد الوطني الفلسطيني؛ فوقفت مثلهم وحدّقت في عشرات الوجوه السمراء وعيونها الساهمة تتطلع بصرامة إلى الأمام، والأكفّ مقبوضة بحرص على الصدور حتى انتهت الموسيقى، وعلا التصفيق وعادت القاعة إلى ضجيجها الخافت قبل بدء الجلسة الافتتاحية. لقد عرف أصدقائي في إدارة نادي الأسير، أنني أحاول الابتعاد، منذ سنوات، عن حضور المناسبات العامة؛ إلا أنهم أحبوا وأصروا أن أكون معهم برسم المودة والاحترام المتبادلين بيننا، وإيفاء للعشرة التي دامت بيني وبين النادي لأكثر من ربع قرن، عملت فيها بداية محاميا ضمن الوحدة القانونية التابعة للنادي، ومن ثم مديرا لهذه الوحدة حتى إغلاقها قبل بضع سنوات. لكنني مع مرور السنين صرت أنأى عن وهم المنصات في فلسطين ورتابة إيقاعاتها؛ وأخاف أكثر من وجع قد يفاجئني بعد أن شاخت أحلامي وانطفأت كواكب ليلي، وكابدت مرارا من رجس الجاحدين وغدرهم. لكنهم دعوني وعرفوا أن صاحب القلب الخافق، يحنّ دوما إلى بئره الاولى التي على حفافها تعلّم سورة الظمأ وصار أخا للأيائل تركض لتقبض على ذوائب الريح، وصبورا كالسرو ومؤمنا كالسنديان. ** لم يهابوا سجانيهم ولا المواجهة، ولم يخافوا إلا على دمعات أمهاتهم، لقد عشقوا الحرية بدنف غير منقطع وذوّتوها في «جوّاهم»، فلم تغرهم المادة ولا التوافه ولا مكائد السجانين
كنت في السيارة وحدي والطرق في فلسطين غالبا لا تنتهي كما يجب أن تنتهي، والسفر فيها يكون مغامرة. كانت طوابير السيارات تمتد أمامي كثعبان أسطوري؛ وصافرات بعض المركبات تحاول أن تُسمع الفضاء احتجاجاتها دون فائدة؛ فالجنود على الحواجز، بعد أن «فقأ» الاحتلال قلوبهم، لم يعد يغويهم إلا صوت عصيّهم وهي تنهال على عظام الفلسطينيين، أو أزيز رصاصهم وهو يصطاد «الشيرينات»، ولا يحبون النظر إلا من منظار فوهة بندقية أو من حدقة عين كلب. كنا نتقدم ببطء شديد نحو الحاجز، وكنت أحاول قتل الضجر والغضب باستحضار شريط من ذاكرة، هي عكس صاحبها، لا تشيخ وتفيض بصور الذين ناضلوا ضد الاحتلال واعتقلوا ودافعت عنها بدءا من سنة 1980. حدثت نفسي كي تهدأ، فرتل السيارات الطويل يتحرك وفق «رحمة» جنديتين تشعران اليوم كحفيدتي بار كوخبا أو بن غوريون، بعد أن نصّبهما «الجنرال» حارستين على أمن امبراطورية الشر، ومسؤولتين باسمها على وقت الرعايا الفلسطينيين، وعلى حرية حركتهم، والتحكم في دخولهم إلى رام الله أم لا. حاولت ألا أفقد اعصابي، وأن انتظر بصبر مثلما يفعل في فلسطين كل من يسعى إلى رزقه والعمل، ويحرص على ألا ترديه رصاصة جندي فاشي محموم. كان في كل مدينة فلسطينية كبيرة سجن ومحكمة عسكرية، وكنا نصلها لنزور الأسرى وندافع عنهم. كانت فلسطين وقتها محتلة عالمكشوف، وكنا نتحرك ونتنقل بين كل المدن والمحافظات بحرّية من غير حواجز، وكان بعد أن حرّرت «اوسلو» أجزاء من فلسطين أصبح أهلها أسرى وعاجزين، وصار بعضهم يقضي نصف عمره في انتظار الوهم، مسلحين بقواعد التدجين وصلاة المسافرين ومزامير الصبر ونشيد «لا نلين». كنت وحدي والفكر سارح ومبتسما إلى أن وصلت قبل الحاجز مباشرة فقلت لنفسي: هراء.. أنت تقول لنفسك هراء.. لقد كانت فلسطين محتلة عالمكشوف وبقيت مختلة/محتلة عالمكشوف، أما أهلها فبقوا كما كانوا أحرارا وصابرين. قلت وخشيت من طيش العاطفة ورتابة الشعار. وعبرنا الحاجز سالمين. في بدايات عملي كنت أحب صباحات فلسطين، لأنني في كل يوم زرت فيه سجنا، أو محكمة كنت أشعر بأن شمس فلسطين تطلع من خاصرة الأرض، كي تأذن للحياة وتقول لها: اندلقي نورا على المعمورة، وللرياح انثري في البحر بذور عواصفك؛ وكنت أحب ليل فلسطين، لأنني كنت أرى في عتمته أقمارها السجينة سابحة نحوي كالمنى وراقصة كالضوء من بعيد. كان ليل فلسطين ستّارا وليس كليل العرب نمّاما؛ وكان ناسها يخبئون تحت جناحه خوابي أوجاعهم وآمالهم، ويحرقون الصلوات بصمت في حنايا صدورهم فتصير في النهارات أعواد نَدّ وبيارق. كنت أسمع أهل فلسطين في السجون وفي المحاكم يروون حكايات عن سيدة كانت تأتيهم في الليالي كحورية من وراء المدى الازرق؛ كانت تسمي نفسها فلسطين. كانت تعدهم بأنها ستأخذهم إلى أعراس في سهول أرجوانية، أرضها من ريق السماء، وأسوار حدائقها من ورود وأزهار أحلى من الفل والنرجس، وفيها أشجار من أقمار صغيرة إلى جانب أشجار زيتون ولوز وعنب وتين. كان الأسرى يتحلقون في حضنها ويصدّقونها ويَصدقونها وكانوا يحبونها وتحبهم. وكنا، نحن المحامين، نحبهم ونحب فلسطينهم وننتظرها في ليالي الصيف وفي ليالينا الغائمة. دخلت قاعة الهلال الأحمر الفلسطيني واتخذت بهدوء أقرب كرسي وجدته أمامي مقعدا. التقيت الكثيرين فاستعدنا الذكريات وفرّ الحنين ليحتفي بعودة الدوري إلى حافة بئره الأولى. كان واضحا لجميع من حضر، أن المؤتمر يعقد في ظروف استثنائية، خاصة في ضوء العدوان الإسرائيلي على غزة، والتصعيد الخطير في الاعتداءات التي تنفذها ميليشيات المستوطنين وفرق جيش الاحتلال ضد المواطنين في الضفة الغربية المحتلة وفي القدس الشرقية. لقد خُصّصت جلسة المؤتمر الافتتاحية لكلمات الضيوف الذين أكدوا فيها، أن انعقاد المؤتمر يعكس التزام القيّمين على إدارة الجمعية بالعمل بنهج ديمقراطي سليم وبشفافية، وحيّوا، كذلك، مسيرة الجمعية على عطائها غير المنقطع منذ تأسيسها عام 1993 واستمرارها في تقديم الخدمات القانونية للأسرى ولعائلاتهم، ولكونها عنوانا أصيلا وعريقا لقضاياهم؛ وأكدوا أن ما يواجهه الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وفي معتقلات الأسر العشوائية، منذ السابع من أكتوبر، يعكس قرار المؤسسة الإسرائيلية بتنفيذ مخططها «بكسر ظهر» الحركة الأسيرة والقضاء على وجودها ودورها كرافد مهم في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، فسياسات الانتقام والترهيب والضرب والتجويع والعزل والإهمال الطبي والتضييق على الأسرى بوسائل غير مسبوقة، تشكل شواهد على نية الاحتلال ومآربه. مع انتهاء الجلسة الافتتاحية أُعلنَت استراحة قصيرة استغلها الحاضرون لإتمام طقوس السلام والكلام والعناق؛ فمعظم الحاضرين، كانوا رفاق درب وأخوة في الأسر ويعرفون بعضهم بعضا؛ واليوم اجتمعوا تحت سقف خيمتهم. بقيت في مكاني فتقدم كثيرون نحوي لإلقاء التحية والسلام، وبعضهم راح يمتحنني فيسألني إن ما زلت أذكر اسمه. عرفت كثيرا منهم ولم أتذكر بعضهم، فبعد أربعين عاما مليئة بالوجع وبالتفاصيل وبالقصص، يحق للعقل أن يسهو وينسى. تذكرت كيف كانوا يشعرون بأنهم أسرى في المجاز، لأنهم عاشوا، في عوالمهم الموازية، بأرواح حرة حتى المطلق. لم يهابوا سجانيهم ولا المواجهة، ولم يخافوا إلا على دمعات أمهاتهم. لقد عشقوا الحرية بدنف غير منقطع وذوّتوها في «جوّاهم»، فلم تغرهم المادة ولا التوافه ولا مكائد السجانين. لم يتمنوا إلا عري الصباح ومعانقة أنفاس الندى النائم على شرفات الذكريات أو الساقط من أهداب يمامات أحلامهم. كنت لا أخاف عليهم الا من نسمة شاردة قد تبلل في الليل وسادة أحدهم الخالية وتوقظ في أحشائها الحنين، أو من عصفورة شقية قد تمر على شباك حلم فتشعل السر وتطير. هكذا كان أسرى فلسطين، أمّ التمائم وسيّدة الرضا، لا ينامون إلا على عصيّ معاولهم ومناجلهم ويحلمون واقفين برائحة الفجر وبغنج السنابل، وبالرقص عند خواصر السواقي. وقفت في طرف القاعة أرقب من بعيد تفاصيل المشهد. كانوا أمامي يضحكون كحبات عقد فريد ويتهامسون بصوت عال، ويتنقلون من طاولة لطاولة بعجقة وبفرح. كانت قاعة المؤتمر تبدو من بعيد كساحة فورة كبيرة في سجن بعيد. كنت واقفا على حافة الارتباك، فسمعت صوت أحدهم يسألني: ما رأيك يا أستاذ بالمؤتمر؟ ثم أردف قبل أن يسمع رأيي سائلا: هل تعتقد أنهم سيفرجون عن القائد مروان البرغوثي؟ هل برأيك سيطلع؟ حاولت أن استوعب جدية السائل فسبقني مُطلقا إجابته بسرعة السهم، وقال «لا أعتقد ذلك، فإسرائيل لن تفرج عنه، وحماس تبيعنا كلاما لأنها تكذب ولا تريده حرا، وكذلك معظم رجالات السلطة لا يريدونه حرا»؛ قالها بنبرة المتيقن ودون مشاعر أسف. نظرت نحوه وسألته: وأنت، هل تتمنى أن يفرج عن مروان البرغوثي، فإذا كنت كذلك عليك أن تستبدل منطق سؤالك وتتحقق من دوافع متهميك؛ ثم سكتُّ برهة وأضفت: أمّا بخصوص المؤتمر فرأيي أنه على الرغم مما ينقصه ومن غابوا، سيبقى بالنسبة للكثيرين كما كان: «مؤتمر نادي الأمل الفلسطيني».
تعليقات الزوار Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/include.php on line 0 Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/ARA_load.php on line 0 |