|
|
|
د. محمد حبيب الله: أن تكون مثقفًا يعني؟ (ما بين العلم والثقافة)التاريخ : 2024-08-28 16:06:58 |
ما أكثر المتعلمين وما أقلّ المثقفين! نصادف في حياتنا اليومية أناسًا تعلّموا سنين كثيرة ولا يظهر عليهم أي دليل على ما تعلموه إلّا الشهادة التي يحصل عليها أطباء ومحامون ومهندسون ومعلمون.. إلى آخر القائمة، وقلّما تجد بين هؤلاء من تأنس به وتحسّ أنه إنسان اجتماعي يتفاعل مع الغير ويحوّل ما تعلمه إلى شيء عملي يظهر في سلوكه وتعامله ومخالطته الغير وقدرته على الحديث المفيد وتحويل ما تعلمه إلى أداة تعينه في تفاعله مع من حوله. ان هدف الاستزادة من العلم والمعرفة لا يكون من أجل التزوّد بزاد ليوم الامتحان ومع الانتهاء منه تنتهي وظيفة هذه المعرفة التي تكون إلى كابوس يود أن يتخلّص منها عن طريق خزنها في اللاواعي، حتى لا تُذكّره بالمعاناة التي عاشها استعدادًا للامتحانات. صحيح ان الإنسان جاء من النسيان، والنسيان نعمة أهداها الله لكل مخلوق، خاصة في حالات فقدان من حوله، فحزنه عليهم يكون مؤقتًا ويذوب مع الوقت ويبدأ حياته من جديد ويتكيّف للحياة وظروفها وحلوها ومرّها لاحقًا، وصحيح ان ما يتبقى في الذاكرة عند الإنسان كل إنسان لا يزيد عن عشرة بالمئة من المخزون الذي تعلَمه من أجل امتحان ونيل شهادة... لكن هذه العشرة بالمئة تكون مغذيًا لذاكرته في ممارسة الحياة اليومية والعلمية ويكون قد اكتسب من خلالها مهارات فهم ومهارات تعلّم ومهارات تفكير تساعده على مواجهة كل ما هو جديد ناهيك من ان استعمال ما يتعلمه الإنسان يساعد على تذكره دائمًا وعدم نسيانه.. لكن ما ذكرته شيء وان يكون الإنسان مثقفًا شيء آخر... فالفرق بين المتعلم والمثقف ان المتعلم يعرف وينسى ما يعرفه لاحقًا، لكن المثقف هو الذي يحول علمه ومعارفه إلى آليات يتعامل من خلالها مع الغير، وذلك عندما يتحول علمه إلى شيء يفيده في سلوكه وفي نواحي حياته العملية وفي استعمال ما تعلّم من أجل تثقيف لسانه وعقله. أي أنه يجعل من العلم الذي اكتسبه أداة يتحوّل بواسطتها إلى إنسان يعمل بعلمه ويفيد من حوله ويجعله يتبع القاعدة التي تقول "ان العلم بالشيء والعمل به" هو أسمى ما يكون عليه المتعلّم.. هكذا يتحوّل المتعلّم إلى مثقف وهي درجة أرقى بكثير من المتعلم الذي يعرف ولكنّه لا يفيد بمعرفته الآخرين. إن كلمة الثقافة في الأصل تعني "عملية تصحيح الرمح المعوج" فقد قيل في أصل اللغة ان الرمح وقت المعارك يعوج أحيانًا وحامله يحتاج إلى تصحيحه لاستعماله مرّة أخرى، فكان العرب يثقفون الرمح أي يصححون المعوج منه وذلك عن طريق إدخاله في عود الثقاف الذي يشبه عود القصّيب وهو نبات كان ينبت في جزيرة العرب ولكنه أصلب منه. وهكذا يستقيم عود الرمح، كما يستقيم قضيب الحديد المعوج عند إدخاله في ماسورة يهدف جعله مستقيمًا، وهكذا تحوّل استعمال هذه الكلمة من الاستعمال الحسّي لها إلى الاستعمال المعنوي التجريدي أي من تثقيف الرمح المعوج إلى تثقيف اللسان المعوج والعقل المعوّج والتفكير المعوج، وخير أداة لذلك هي العلم الذي ينهله الإنسان من أدب ولغة وشعر ونثر وحكمة وقول... وتعلّمه يجعل لسانه صحيحًا سليمًا وعقله وتفكيره سليمان.. وهكذا فإن مقياس المتعلم ليس في كمية العلوم التي خزنها واستعملها من أجل أداء الامتحان ونيل الشهادة والدرجة العلمية وإنما في تحويل ما يتعلّمه إلى أداة تفيده عمليًا في حياته وفي تعامله مع الغير، هذا هو الفرق بين المتعلم والمثقف.. والناس بعد تعلمهم المنهجي وتعلمهم يصبحون مثقفين، أو متعلمين غير مثقفين لا يفيدون من تعلمهم شيئًا عمليًا حياتيًا. والسؤال: من أين تأتي الثقافة إذا كانت امتنا العربية من الخليج وحتى المحيط في سبات عميق لا يقرأون ولا يتثقفون؟ من أين تأتي الثقافة إذا كان عدد القراء العرب مجتمعين للكتاب لا يتعدى الثمانين كتابًا في السنة، بينما وعلى سبيل المثال يقرأ كل فرد في فرنسا وإنجلترا بين 45 - 50 كتاب في السنة وان معدل ما يقرؤه كل فرد عند باقي الشعوب في أوروبا يكون بين (35 - 40) كتاب في السنة حسب تقارير اليونسكو. نستنتج من هذا ان بلادنا العربية لا تعلّم التفكير وأولادنا ليس لديهم القدرة على المحاججة. والأبحاث، تشير إلى أن تطوير التفكير يتم في الأساس عن طريق القراءة والكلمة المكتوبة، لكن النصوص التي يقرأها أولادنا في المدارس في الدول العربية لا تتعدى كونها نصوصًا هزيلة وفقيرة والأسئلة التي يضعها مؤلفو كتب القراءة للنص لا تتعدى كونها أسئلة إجابتها في النص أي "قراءة السطور"، والأسئلة التي تتطلب الإجابة عليها قراءة "بين السطور" و"ما وراء السطور" (أسئلة خارج النص) تكاد لا توجد. فمثلاً عندما يقرأ الولد نصًّا كالآتي: "كانت المرأة منشغلة في تنظيف بيتها بعد أن ذهب أولادها إلى المدرسة وكانت حانية ظهرها أثناء تنظيف البيت" فالمؤلف يورد عليها أسئلة لا تتعدى ظاهر النص مثل: أين ذهب الأولاد؟ من ذهب إلى المدرسة؟ ماذا كانت تفعل الأم بعد ذهاب أولادها للمدرسة؟ وكيف كان شكلها أثناء عملية التنظيف؟ أما أسئلة خارج النص فهي في الغالب غير موجودة. وهذه أسئلة تتطلب الإجابة عليها تفكيرًا تحليليًا أو إبداعيًا أو ناقدًا مثل: لماذا كانت المرأة حانية ظهرها؟ لماذا ذهب الأولاد إلى المدرسة؟ لماذا لم تنظف الأم البيت قبل ذلك؟ ماذا كان يحصل لو أن الأم لم تنظف البيت؟ هل توافق على ما قامت به الأم؟ ماذا تفعل لو كنت مكان الأم؟ وأخيرًا يجب ان لا تقتصر مادة الكتب على نصوص من محيط الطالب بل من مصادر خارجية من التاريخ والتراث العربي، وكذلك يجب أن نفتح للطالب نافذة على الأدب العالمي وحضارات الشعوب.. وهذا يتطلب وجود حركة نشطة لترجمة كتب أجنبية، وحسب احصائيات اليونسكو ففي بلد مثل أوكرانيا تُترجم كتب إلى لغتها بعددٍ يفوق كل الترجمات مجتمعة في جميع الدول العربية وان جامعة السوربون في فرنسا كانت تعلّم الطب باللغة العربية منذ سنة 1258 ولمدة أربعمائة سنة. علينا أن نعترف بأننا "أمة لا تقرأ" بالرغم من الآية الكريمة التي بدأ بها القرآن قبل حوالي ألف وخمسمائة سنة، اقرأ باسم ربك الذي خلق وإلا فستبقى ثقافتنا هزيلة ومتعلمينا متعلمين أكثر منهم مثقفين!
تعليقات الزوار Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/include.php on line 0 Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/ARA_load.php on line 0 |