|
|
|
د. رفيق مصالحة: من يوميات طبيب في مخيمات اللاجئين في قطاع غزةالتاريخ : 2024-11-27 18:26:56 |** أيام الحصار (2) مخيم جباليا كان يوم خميس من الاسبوع الأول من شهر مارس من العام التاسع عشر من الألفية الثانية.. كان الطقس باردا صباح دلك اليوم، وكانت الامطار تهطل زخات خفيفة. عبرت البعثة الطبية حاجز بيت حانون (ايرز)، وعلى غير عادة دون اعاقات وتحقيقات طويلة من الجانب الإسرائيلي. وعلى الطرف الاخر من الحاجز، كان ينتظرنا المندوب المنسق من قبل وزارة الصحة في القطاع ومعه الحافلة التي ستنقلنا الى مدينه غزة. لذا لم تبتل كثيرا امتعتنا وصناديق الدواء التي نحملها وتحتوي على عقاقير خاصة وحديثة غير متواجدة في القطاع.. هنا كثير من الأمراض لا تزال تعالج بأدوية وعقاقير استعملت قبل عشرات السنين، رغم توقف استعمالها في معظم دول العالم لقلة نجاعتها، ولكثرة المضاعفات الناتجة عنها، فالظروف في القطاع صعبة والموارد شحيحة بسبب الحصار الكابس على اعناق البشر. جذب انتباهي صندوق مغلف متوسط الحجم يحمله زميلنا اخصائي امراض الجهاز الهضمي بعناية شديدة، وقد ضمه الى حجره بحرص وهو يجلس بجانبي في الحافلة. قلت له مداعبا: كيف حال ابنك المدلل هذا؟ وضحكنا سوية. قال مبتسما: لقد تعبت كثيرا حتى استطعت - والحمد لله - ان احضر معي هدا الجهاز لأقدمه هدية لمستشفى ناصر في خان يونس.. انه جهاز حديث يحتوي على ناظور لفحص المعدة، بدلا من الناظور الوحيد المهترئ الذي لا يزال يستعمل في المستشفى والذي يزيد عمره عن خمسة عشر عاما، وقد تهشمت عدسته وتعذرت الرؤيا من خلالها وتصلبت اسلاكه الصغيرة، وغدت كالمخرز الحاد غالبا ما تؤدي الى قروح ونزيف في انسجة المعدة الحساسة. وهكذا من الممكن ان نؤدي الى مضاعفات خطيرة لدى المرضى المساكين، بدل ان نساعدهم. خلال اللقاء في بداية هذا اليوم الطبي مع الأطباء الزملاء في وزارة الصحة بمدينة غزة، علمنا كم هي متردية الأوضاع الصحية في القطاع وكم حجم المعاناة التي يعيشها الناس هنا. ففي كثير من الاحيان ينفد حليب الأطفال لفترات طويلة مما يشكل خطر على حياتهم، وكذلك تنفد الأدوية الأساسية مثل المسكنات او المضادات الحيوية لعلاج الأطفال والكبار، وتنعدم السيرنجات لحقن الانسولين لدى مرضى السكري الخطير. وكثيرا ما تختفي المعدات الأولية كالشاش والضمادات ومواد التعقيم في غرف العمليات. ناهيك عن النقص الحاد في الأجهزة الطبية الاخرى. بالإضافة الى ذلك، يحرم الأطباء من السفر لحضور المؤتمرات الطبية او الاشتراك في دورات تأهيل مهنية خارج القطاع. بمشاعر جياشة يعتريها الأسى والغضب بدانا يومنا. انتقلنا الى مخيم جباليا القريب من مدينة غزه. كان ترحاب الأهالي وكذلك رئيس بلدية المخيم والوفد المرافق له يفوق كل وصف، حيث غمرونا بمشاعر الامتنان والشكر والمحبة، وقدمت فرقة من الأطفال عرض من الأغاني التراثية الفلسطينية المحببة، ثم قدموا لكل منا وردة جوري جميلة مرفقة ببعض الكلمات المعبرة من التقدير والعرفان، اعادوا لنا مشاعر الثقة والاطمئنان لمستقبل افضل. بدا الأطباء استقبال المرضى في غرف صغيرة كانت عبارة عن مكاتب او غرف لفعاليات تقام في هذا المركز الجماهيري الوحيد في المخيم، وقد تحولت الغرف الى عيادة ميدانية، وكل غرفة تحتوي على طاولة صغيرة ومن حولها عدة كراسي خشبية، وفي الركن وضعت اسرة قديمة جلبت من عيادة المخيم القريبة وبجانبها بعض المعدات الطبية الأساسية. بدأنا استقبال المرضى الكثيرين الذين كانوا يتكدسون امام كل غرفة، رجال ونساء في مختلف الأعمار اثقلتهم أعباء الدهر واعياهم المرض، كان كل منهم يحمل كيس صغير من البلاستيك كالذي نضع به المقتنيات من أي حانوت، تكدست بداخله تقارير طبية كثيرة وصور اشعة قديمة، وعلب كثيرة من الأدوية من مختلف الأنواع لتحكي قصة المعاناة والألم من الأمراض المستعصية ومن وزر الأيام. لفت انتباهي ذلك الطفل، وهو يدخل الغرفة، لم يبلغ الثامنة من عمره، يتكئ على عصا صغيرة يمسكها بيده اليسرى ويتشبث جاهدا بسروال والده باليد اليمنى، ويسحب رجله اليمنى على مصطبة الغرفة. طفل صغير اصيب من شظية صاروخ اطلقته طائرات الاباشي المغيرة في سماء المخيم خلال الغارات المتكررة على القطاع قبل نصف عام. كان يومها يختبئ داخل منزلهم الصغير وسط المخيم المغطى سقفه بالصفيح، لا توجد ملاجئ اواي غرف مبنية من الباطون المسلح الواقي من الصواريخ كما هو في مستوطنات الغلاف، الناس هنا عرضه لحمم النار والقنابل الفتاكة تهطل من السماء خلال الغارات المتواصلة. لقد اصيب براسه الصغير من كتلة حديدية ملتهبة، كسرت عظام الجمجمة الامامية من الطرف الأيسر وأدت الى نزيف في الدماغ في نفس المنطقة. قضى عدة أسابيع في غيبوبة تامه يقبع في قسم العناية المكثفة في مستشفى الشفاء لم تجف دموع والدته ولم تنقطع تنهدات والده، يتضرعان الى الله بأن يشفي ابنهما، انه طفلهم الوحيد، انتظروه بلهفة لسنين طويلة وقد تكبدوا معاناة العلاج وتكاليفه الباهظة. لم تتسع بهم الدنيا من البهجة والسعادة يوم ولادته، وبدلوا كل ما استطاعوا لتربيته وتهذيبه على اكمل وجه رغم كل الظروف، وويلات الحروب والحصار. يوم ان استفاق من غيبوبته الطويلة، كانت سعادة والديه لا تعرف الحدود، وعمت الفرحة جميع ارجاء المخيم، وانتابت الأطباء مشاعر الدهشة والحيرة مشوبة بسعادة كبيرة، حيث ان الطفل لم يفقد القدرة على الكلام رغم ان الإصابة في الدماغ قريبة جدا من منطقه النطق، ولكن وللأسف كان يعاني من شلل في الأطراف اليمنى. بعد انقضاء بضعة شهور من خروجه من المستشفى، استطاع هذا الطفل ان يسترجع بعض القوة في عضلات اطرافه اليمنى المشلولة وذلك بفضل برامج العلاج الطبيعي المكثف التي كان يخضع لها، مما ساعده على ان يقف على قدميه ويمشي متكئا على عصاه، شامخا دون مساعدة الاخرين. بعد فحص الطفل وتشخيص وضعه الطبي، اقترب مني والده ببطء، يرمقني بعينين ملاتهما الدموع، وارتعشت شفتاه وهو يهمس بصوت خافت، ارجوك يا دكتور، اتوسل اليك، انتظرت قدوم بعثتكم طويلا وبفارغ الصبر، واليوم جئت اليك وانا كلي امل وثقة بانك تستطيع مساعدتي وانقاد ابني وحيدي. احترت من كلامه وقلت بثقة، ابنك بخير. قال بإصرار، لا يا دكتور المشكلة اكبر من ذلك، انني لا انام الليل، امضيه يقظا ساهرا، رغم انني اعمل في الاشغال الشاقة طوال نهاري، لكن ما العمل، لا استطيع ان اترك ابني على هذه الحالة. لا احتمل منظر تلك الفئران الضخمة وهي تجري متزاحمة نحو فراشه وهو يغط في نومه العميق، طفل بريء لا يدري ما يدور حوله. ثم طأطأ رأسه واسترسل بصوته الخافت، لا بد انك تعلم جيدا الظروف القاسية التي نعيشها في المخيم، بيوتنا مبنية من الصفيح والاخشاب البالية، متلاصقة ببعضها البعض، تنتشر بينها النفايات ومياه الصرف الصحي. بيئة خصبة جدا لتكاثر الحشرات والبعوض والفئران والجردان التي تصول وتجول ليل نهار عابثة في كل شيء. لكن السبب الأهم لمخاوفي وهمومي، هي ثلة من هذه الفئران الضخمة التي تسعى كل ليلة نحو راس ابني المصاب وهو يغط في نومه، تتسابق لاهثة لتلعق من ذلك السائل المنساب من تحت جلد راسه، يبلل شعره. هذه الظاهرة اعلمنا عنها الأطباء، وقالوا انها ناتجة عن تهتك عظم الجمجمة، مما يجعل الدماغ مكشوف يكسوه فقط جلد الراس، لذا منذ الإصابة والسائل الدي يحيط الدماغ يتدفق بغزارة من هذه المنطقة في راس ابني ويعبر الجلد ليغمر شعره، خاصة عند الاستلقاء في فراشه ساعات الليل. كما اخبرنا الاطباء فإن هدا السائل يحتوي على نسبة عالية من السكر، لذا تسعى كل ليلة هذه الفئران لتلعق من هذا السائل ذو المذاق الحلو. ان ما يخيفني ويؤرقني هو ان يحدث ما لا يحمد عقباه، وان احد هذه الفئران بدل ان يلعق السائل بلسانه، يغرس اسنانه الطويلة الحادة في جلد الرأس ويصل الى دماغ ولدي ليمزقه ويتلفه، لذا ابقى ساهرا طوال الليالي لأطارد هذه الحيوانات الكريهة واحمي ابني. منذ الإصابة والأطباء يعملون جاهدين لمساعدتنا من اجل القيام بعمليه جراحية لزراعة عظم الجمجمة لدرء هدا الخطر المحدق، لكن هذا العلاج غير متوفر في القطاع ويحتاج الى قسم جراحة اعصاب متطور، لذا يجب ان يسافر الى خارج القطاع وبأقرب وقت ممكن. من خلال الدموع استرسل قائلا، ارجوك ان تساعدني لقد طرقنا كل الأبواب دون فائدة، أملي كبير بأن تنجح بمساعدتي، حتى ننقذ ولدي ونحميه من كل المخاطر وكل المضاعفات القاتلة. خلال بضعة اسابيع استطاعت منظمة أطباء من اجل حقوق الانسان من مساعدة هذا الطفل ونجحت العملية الجراحية التي أجريت خارج القطاع. نجا الطفل وعاد ليمارس حياته الطبيعية بسعادة الاطفال، وعاد الوالد لينام ليله الطويل. يا ترى اين هذا الطفل اليوم، وماذا فعلت به هذه الحرب، لقد دمرت القوات الاسرائيلية مخيم جباليا بالكامل وقتلت وهجرت جميع ساكنيه، كما فعلت بجميع مخيمات القطاع، وقتلت وجرحت عشرات الالاف من السكان اغلبهم من الأطفال ضحايا هذا العدوان الغاشم. د. رفيق مصالحة اخصائي امراض الاعصاب عضو جمعيه اطباء من اجل حقوق الانسان
تعليقات الزوار Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/include.php on line 0 Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/ARA_load.php on line 0 |