|
|
|
محمد كريشان: يوم تم التحقيق معي في "فرع فلسطين" سيئ الصيت في دمشق.التاريخ : 2024-12-12 20:15:16 |(من كتابي: "وإليكم التفاصيل"):
"الحمد لله على السلامة".. قالها لي الرجل بكل لهفة بمجرد خروجي من "فرع فلسطين" الذي كان ينتظرني خارجه، وكأني خرجت له من القبر أو من جوف جُبٍّ سحيق. عاد إليَّ هذا المشهد بحذافيره وأنا أطالع الشهادة التي رواها لصحيفة "القدس العربي" اللندنية شخص اكتفى باسمه الأول، بدر الدين، المعتقل السوري السابق في الفرع 235 للمخابرات السورية المعروف باسم «فرع فلسطين»، من أن "من يدخل هناك يُعَدُّ ميتاً منذ دخوله، وعلى أقاربه إقامة عزاء له بمجرد علمهم أنه في (فرع الجحيم)، وأن الخروج منه يعني معجزة سماوية". وإذا ما بحثت عن تعريف سريع لهذا المكان في الإنترنت فستجد في الحد الأدنى أنه "أحد فروع شعبة المخابرات العسكرية بالعاصمة دمشق، وأحد أسوأ الفروع الأمنية سمعة ومن أكثر الفروع التي يخشاها الناس". ما حدث لي كان في عام 1997، حُجز جواز سفري في مطار دمشق عند الوصول وطلب مني مراجعة «الجهات المختصة»، دون أدنى تفسير، على الرغم من أني كنت في مهمة صحفية نسقت فيها مع السلطات قبل أسابيع. قال لي بعضهم وقتها إن اتفاقاً أمنياً بين تونس ودمشق يقضي بحجز جواز سفر كل تونسي مضى على مغادرته تونس أكثر من ستة أشهر والتحقيق معه. لكن سفارة تونس في دمشق نفت لي ذلك. قصدت في اليوم التالي إدارة الإعلام الخارجي وسررت لوجود قاضي أمين هناك، ذلك الشاب الأشقر الوسيم الذي سبق أن التقيت به في دمشق التي كنت وصلتها عام 1991 لتغطية «تجديد البيعة للرئيس القائد حافظ الأسد». أجرى اتصالاً هاتفياً سريعاً ثم قال: "بسيطة.. اذهب غداً إلى فلان في فرع فلسطين لتستلم جوازك". في الغد، قصدت المبنى الذي يقع بجانب الجمارك العامة في منطقة مليئة بمقرات الأجهزة الأمنية المختلفة، وعند المدخل المخصص للمراجعين والأقرب في شكله إلى باب ورشة إصلاح سيارات، أو مخزن أثاث قديم، سارع الرجل الواقف هناك إلى السؤال عن صاحب المعاملة، رافضاً أن يصحبني مسؤول العلاقات العامة في السفارة القطرية في دمشق، ويدعى "فايز". الممرات الخارجية التي تقود إلى المكاتب الرئيسية مهملة وملآنة بالكراسي والطاولات المكسورة. وصلت مكتب اللواء فطلب مدير مكتبه من أحدهم اصطحابي إلى مكتب آخر. ظننت من سذاجتي أني سأستلم جوازي.. وأمضي في حال سبيلي. لم يدر ببالي أن تحقيقاً مطولاً ينتظرني هناك: - الاسم الثلاثي وتاريخ ومكان الولادة؟ - سيدي أنا هنا فقط لتسلم جوازي الذي هو بين يديك الآن. - ما تعطَّلْني، أجابني مُتبرّماً هذا الموظف الأربعيني النحيف وبطريقة جافة توحي أنه ليس مستعداً لسماع أي كلمة أخرى، بل وبدا لي كارهاً لنفسه ولعمله كذلك.. - يا سيدي أنا فلان وجئت من طرف فلان لتسلم جوازي و....... - ما تعطلني!!.. سلمت أمري لله وبدأت في الرد على أسئلة شخصية لا حصر لها، يرميها هذا الموظف ذو الملامح القاسية وكأنه يحفظها عن ظهر قلب: متزوج؟ اسم وتاريخ ميلاد الزوجة؟ عدد الأبناء وتاريخ ومكان ميلادهم؟ وسائل الإعلام التي عملت فيها؟ دراستك الابتدائية والثانوية والجامعية؟ أما أغرب سؤال فكان التالي: هات أسماء كل الدول التي زرتها في مهام صحفية، المناسبة والتاريخ ولحساب أي وسيلة إعلام؟ - أنت تتحدث عن 17 عاماً.. كيف لي أن أتذكرها جميعاً بهذه الدقة؟!! - ما تعطلني!!.. سردت ما أمكنني تذكره، ولكن ما إن وصلنا إلى سنوات صلاحية الجواز حتى صار يقارن بين التواريخ التي أقولها والأختام التي عليه. - إسبانيا والمغرب في تموز/يوليو 1995 لحساب تلفزيون «البي بي سي» العربي لإعداد سلسلة تقارير عن العلاقات المغربية الإسبانية المتأزمة آنذاك... - آب/أغسطس وليس تموز/... - يعني!... في خضم هذا التحقيق، جاء أحدهم يطلب منه الجواز، فرد عليه بأنه لم ينتهِ بعد من تحقيقه، فنهره بقسوة وأخذ جوازي وطلب مني اصطحابه. دخلنا هذه المرة عند المسؤول الكبير الذي جئت إليه في الأصل، وأُرجِّح الآن أنه العميد هشام بختيار رئيس الفرع، قبل أن يترقى في الرتبة والمنصب في السنوات التي تلت ليصبح لواء ثم يشغل منصب رئيس مكتب الأمن القومي السوري ومعاون نائب رئيس الجمهورية، وقد كان عضواً في خلية الأزمة السورية، التي جرى اغتيال أعضائها، أو تفجير مقر اجتماعها، في تموز/يوليو عام 2012. مكتب كبير مع أبهة وحراسات عند المدخل. استقبلني مبتسماً بحفاوة: شاي أم قهوة؟ قبل أن يضيف: كان مجرد تشابه أسماء.. ههه!! تعلمُ جيداً أنكم أنتم المشاهير إذا لم نحجز لكم الجواز فلن تتاح لنا فرصة اللقاء بكم!!! مع هذا اللواء، انتقلت الأسئلة الصارمة السابقة إلى أسئلة فضولية خفيفة مع رشفات القهوة والشاي.. خديجة بن قنة متزوجة؟ إيمان عياد فلسطينية، أليس كذلك؟ جميل عازر فلسطيني أم أردني؟ لماذا هو دائم العبوس على الشاشة ههه؟ سامي حداد بريطاني مش هيك؟!! استلمت جوازي من اللواء، وغادرت بعد زهاء ساعة ونصف من دخولي المبنى، لأجد "فايز" ينتظرني في الخارج على أحر من الجمر، وقد تملّكه قلق شديد، يفسر اللهفة والابتهاج اللذين ملأ بهما "حمد الله على السلامة"، وهو ما رأيته وقتها مبالغاً فيه قبل أن أعرف بعد سنوات ما معنى وما قيمة أن يخرج الواحد سالماً من "فرع فلسطين" في دمشق.. وما أدراك ما فرع فلسطين!! تمضي السنوات سريعاً ويأتي هذا الرجل الطويل والممتلئ ونحن نهمّ بمغادرة صلاة التراويح في إحدى الليالي الرمضانية في الدوحة ليسألني: هل تذكرني؟ - لا والله.. أجبته كما أجيب كثيرين بعد طرح هذا السؤال الذي أمقته كثيراً، لأنه غالباً ما يشعرني بذاكرتي المهزوزة، أو لأن من يطرحه ربما يكون شخصاً التقيته بالمصادفة في فرع بنكي قبل عشرين عاماً، ومع ذلك يسألني هذا السؤال!! - أنا فايز الذي ذهب معك إلى "فرع فلسطين" قبل أكثر من عشرين عاماً وقلت لك حمداً لله على السلامة حين خرجت منه.. - يا الله!!! كيف نسيتك؟!! بصراحة يومها كنت أعتقد أنك تبالغ في مجاملتي، قبل أن أعرف لاحقاً، وبعد أن قرأت وسمعت الحكايات المرعبة لهذا الفرع، ما معنى "حمد الله على السلامة"، لأني يومها قد أكون فعلاً ولدت من جديد!! شيء واحد ظل في خاطري وكنت أتمنى القيام به ولم أفعل.. حين كنت أنتظر دوري في ذلك التحقيق كان ذلك الموظف الصارم والجاف يحقق مع شاب جزائري، لا أدري ما قصته، لم أحضر سوى أسئلته الأخيرة له عن رأيه في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ومدى تأييده لانقلاب الجيش على نتائج الانتخابات عام 1991. كان واضحاً أن هذا الشاب «غلبان» بالكامل ولا علاقة له بأي شيء. أعطاه جوازه في النهاية وطلب منه الانصراف. سار الشاب خطوتين ثم عاد ليسأل المحقق: أريد أن أزور الجولان والقنيطرة.. ماذا أفعل؟ تجاهله صاحبنا بالكامل ولم ينظر إليه.. أما أنا فكنت أريد أن أضربه على قفاه وأصرخ فيه: يا عمي روّح واحمد ربك.. بلا جولان.. بلا بطيخ!!.
تعليقات الزوار Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/include.php on line 0 Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/ARA_load.php on line 0 |