|
|
|
د. رفيق مصالحة: من يوميات طبيب في مخيمات اللاجئين في قطاع غزةالتاريخ : 2024-12-17 20:18:12 |أيام الحصار- 4 - مخيم النصيرات كان يوم خميس من شهر يونيو من السنة الخامسة عشرة من المائة الواحدة والعشرين، عبرنا حاجز بيت حانون "ايرز" نحمل امتعتنا وصناديق الأدوية الكثيرة والمهمة. كانت السماء زرقاء صافية عدى بعض الغنيمات الرمادية الباهتة تجول في سماء غزة، تحجب الشمس قليلا علها تخفف من قيظ ذلك الصباح. بدأنا يوم التطوع الطبي في احدى المدارس في مخيم النصيرات وسط القطاع، كانت جموع المرضى تنتظرنا بلهفة لأن الطبيب المبعوث من وكالة الغوث، يزور المخيم ثلاثة مرات في الأسبوع فقط. لذا يعجز عن استقبال الاعداد الكثيرة من المرضى، فيطول انتظارهم وتتفاقم امراضهم وتتفشى العدوى في أجسادهم. الناس هنا ينتظرون قدوم بعثتنا الطبية "اطباء من اجل حقوق الانسان" بلهفة ورجاء وامل كبير. بعد ان انتهيت من علاج الفوج الأول من المرضى، وما كدت ان انتهي من رشف فنجان القهوة قدمه لي مضيفونا بامتنان عظيم، حتى شاهدت شاب وسيم طويل القامة في أواسط الثلاثينات من عمره، يتكئ بذراعيه على كتفي والده واخوه الأصغر منه، يتقدم نحوي بجهد كبير وقد ضعفت رجلاه وكادت لا تحمل جسده، وما ان جلس متهالكا على الكرسي امامي، يلتقط أنفاسه بصعوبة، شرع يقول بصوت لاهث وهو يرمقني بنظرات ثاقبة، فيها مزيج من الرجاء والغضب.. قال: يا دكتور اروجك ان تفهم وضعي، اتوسل اليك ان تسمعني حتى النهاية، لقد بدأت رحلة معاناتي منذ اكثر من سنة ونصف، حيث بدأ ينتابني شعور بضعف ووهن خفيف في رجلاي يتضاعف عندما أقوم بجهد قليل او امشي لمسافات قصيرة، شعور غريب لم اعهده من قبل، اذكرني منذ نعومه اظفاري، كنت دائما قويا أقوم بكل الاشغال الشاقة، اساعد والدي خلال رحلات الصيد في عرض البحر اقف طوال الليل متحفزا امسك الشباك، واعالجها بقوة متحديا أمواج البحر الهائج.. وكنت دائما احمل طفلاي الصغار على كتفي واجري بهما على طول الشاطئ او اعوم وهما يمتطيان ظهري لمسافات بعيده دون تعب. ولكن مع مرور الأيام ازداد ضعف رجلي حتى أصبح الوقوف والمشي ولو لمدة قصيرة يرهقني كثيرا، فغدوت لا أستطيع ان أقوم بأي جهد.. ولم اعد اقوى على ممارسة عملي في الصيد، مما جعل والدي وأخي يشفقون علي ويمنعونني من أي عمل، وبانت في عيون طفليّ نظرات يملأها الخوف، يرمقانني بدهشة وتساؤل وهما لا يعيان ما اصابني، مما كان يضاعف من آلامي وبؤسي. منذ أكثر من عام وانا أزور الأطباء وخاصة الاخصائيين بأمراض العظام والاعصاب، قمت بعمل كل الفحوص التي أمروا بها دون تردد، وكل أملي كان ان يصلوا الى التشخيص الأكيد لحالتي المستعصية على كل العلاجات وكل الأدوية. حتى جاء ذلك اليوم اذكره جيدا، منذ حوالي ستة أشهر دعاني طبيب الأعصاب لزيارته في عيادته الخاصة، يومها دخلت الغرفة برفقه والدي ومشاعر الخوف والرهبة تغمرني. بدأ حديثه مباشرة وقال بصوت رصين وهو يبحث عن الكلمات بحذر شديد. أخيرا بعد ان حصلنا على نتائج صور الرنين المغناطيسي (MRI) للعامود الفقري، وجدنا بأنك تعاني من مرض سرطاني في اغشية النخاع الشوكي للعامود الفقري في أواسط الظهر. كانت كلماته تهبط على مسامعي كالصاعقة تمزق جسدي وتقتلني، وشعرت بدوار شديد، ودخان اسود يغشى عيناي، وفي غيبوبتي بانت حياتي البائسة كشريط سينمائي يمر من امامي سريعا، رأيت اطفالي يضمونني ويقبلونني ودموعهم تنساب غزيرة على وجنتاي، وبانت لي زوجتي المسكينة وهي تبتسم لي عند عودتي الى البيت وتعابير الحزن تطغى على محياها، وظهر لي والداي واخوتي رايتهم ينتحبون ويبكون. هالني ما رأيت وسألت نفسي بأسى هل اقتربت النهاية. افقت على صوت والدي وهو يضمني برفق وجزع، ويسكب الماء على جبهتي علني استرجع وعيي. تقدم الطبيب نحوي وربت على كتفي برفق وقال يشجعني، اود ان اطمئنك وأهدئ من روعك فلحسن حظك ان هذا السرطان هو من النوع الحميد يدعى MENINGIOMA انه لا ينتشر في الجسد ولا يؤدي الى مضاعفات خطيره، فهو عاده ما يكون عبارة عن مجموعة من الخلايا التي تتكاثر ببطء لتشكل كتلة تتضخم لتضغط على النخاع الشوكي. الذي يحوي خلايا عصبية من أنواع متعددة، وكذلك يحتوي على جميع الامتدادات العصبية الهابطة من الدماغ نحو الأطراف وباقي اعضاء الجسد، خاصة الرجلين لتعطيها القوة والقدرة على الحركة والمشي. وهذا ما يفسر ما حدث لك خلال السنة والنصف الماضيين. واسترسل يقول بثقة ان علاج هذا المرض سهل جدا، لكنه يحتاج الى القيام بعملية جراحية لاستئصال هذه الكتلة وازالة الضغط على النخاع والاعصاب داخله، وختم حديثه مبتسما ومشجعا، ان هذا النوع من العمليات الجراحية ليست خطيرة ونتائجها مضمونة. كنت لا أزال في ذهولي وتعذر عليّ فهم كل ما قاله الطبيب، لكنني رأيت والدي يرفع يديه يتضرع الى السماء ويحمد الله كثيرا والدموع تنساب حارة من مقلتيه. بعد ان اطلعت على البيانات والفحوص الكثيرة، وبعد ان فحصت هدا الشاب المريض، خلصت الى ان الوضع لا يحتمل الانتظار، فهذه الكتلة السرطانية تضخمت كثيرا وباتت تضغط بشده، وهناك خطر وشيك بتهتك انسجة النخاع الشوكي وحدوث شلل دائم في الأطراف السفلى ليس له أي علاج. لقد فشلت كل الجهود التي قام بها الزملاء الأطباء والمسؤولين في وزارة الصحة في القطاع، لنقل المريض الى احد المستشفيات في داخل البلاد او الى احدى مستشفيات الضفة الغربية التي يتوفر فيها هذا النوع من جراحة العامود الفقري. كان أملي كبير بنجاح المساعي الحثيثة والضغوطات التي قامت بها منظمة أطباء من اجل حقوق الانسان لنقل المريض الى الداخل، فنحن في صراع مع الزمن. لكننا وبكل خيبة أمل وأسف خسرنا القضية في المحكمة العسكرية بدعوى ان اسم هذا الشاب مدرج في قائمة الممنوعين من الدخول الى البلاد لأسباب امنيه، لكن دون أي تفسير واضح. بعد مضي ما يقارب الشهر اتصل بي والد هدا الشاب، كانت مشاعر البهجة والانتصار تطغى على صوته وهو يعلمني بان ولده سيدخل غرفة العمليات بعد قليل، انه متواجد في احدى الدول العربية وصلوا اليها بعد ان بدلوا كثير من الجهود وانفقوا الكثير من الأموال، واردف قائلا المهم صحة ولدي وشفائه. كانت سعادتي كبيرة واوصيته ان ينقل لابنه تمنياتي الخالصة بنجاح العملية ورجوته ان يتواصل معي في أقرب وقت ليطمئنني. في صباح اليوم التالي ما ان دق جرس تلفوني حتى التقطه بسرعة وأجبت بلهفة: لكن على الطرف الآخر كان الصوت منكسرا تخنقه الدموع، وقال بحزن: "لم تنجح العملية يا دكتور، مات ابني وهو على طاولة الجراحة في غرفه العمليات"، واجهش في البكاء، وبعد برهة اردف حانقا: "لم يفصحوا لنا عن سبب الوفاة"... وغاب الصوت بعيدا.
تعليقات الزوار Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/include.php on line 0 Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/ARA_load.php on line 0 |