محمد داوود كبها: قُرّيص الحواكير!

التاريخ : 2025-02-06 14:14:12 |

في بيتنا القديم كانت ثمّة حاكورة صغيرة تربتها سوداء خصبة تسرّ الناظرين، تحدها من الغرب شجرة تين شامخة، ومن الجنوب شجرة صبر ودالية عنب كانتا بمثابة حدودٍ طبيعية بين أرضنا وأرض سيدي أبو النافع رحمه الله، وكان والدي حفظه الله يحضّنا أنا وإخوتي الصغار على زراعتها وريّها...

فكنّا نتفنن في تحضير أحواض الملوخية وأتلام اللوبية والبامية والباذنجان، وكان القاشوش آلتنا المحبوبة لسهولة استخدامه ورفعه، أمّا الطورية فكانت الآلة التي تهرّب منها إخوتي، فباتت من نصيب يديّ على الدوام...
كان أخي الصغير في عمر البراعم، فاستلم مسألة السقي والري، وما أجمله حينما كان يتنقل بين الأحواض والأتلام بخفة ورشاقة وفرح، وهو يقبض على "كِشكَة" الماء أو "البربيش" كما كنا نسميه، وهو عبارة عن خرطوم مياه مرن وطويل يساعدنا في السقاية بدلا من استخدام الدلاء.

وكانت الأيّام والأسابيع الربيعية والصيفية تمرّ علينا ونحن منغمسون في متعة عظيمة، متعة الزراعة والري ومتابعة النباتات وهي ترتقي ببطء يومًا بعد يوم حتّى يحين موعد القِطاف.

لكنّ الذي كان ينغّص علينا، هو أن تلك المزروعات كانت ترافقها بعض الأعشاب الضارة، وكان للقرّيص والغبيرة حصة الأسد في تلك النباتات المنبوذة!

كان أبي يتابع عملنا عن كثب، ويشاهد ما نشاهد، وكانت أكثر الأمور التي تُقلقنا ونخشاها تلك اللحظة التي يُصدر بها أوامره وتعليماته باقتلاع القُريص من "شروشه" إذ لا فائدة تُرجى منه، ولا مكان له بين زرعنا اليانع!
ورغم أنّ القُريص كان مليئًا بالشوك ذي اللسعات المؤلمة، إلّا أنّ البَركة لم تقع على محصولنا إلّا عندما كُنّا نقتحم ساحات الوغى فنقاتِل ونقاتَل، ولا نعيد السيوف إلى أغمادها حتّى نجتثه من الأرض!
ورحم الله سيدي أبو النافع حينما كان ينظر إلينا بعد المعركة ونحن في حركة نشطة من الحك وتمرير الأظافر على المرفقين والساعدين، فكانت تنتابه نوبة من الضحك ويقول مواسيًا ومشجّعًا:

"وجع ساعة ولا وجع كل ساعة يا سيدي"

وفي الحقيقة، كم كان ذلك الجدّ صادقًا! فحينما كُنّا نأوي إلى فراشنا في المساء كُنّا ننسى كل تلك الآلام، والأهمّ من ذلك كله أنّنا حينما هممنا بجني المحصول بعد أسابيع، وجدنا الثّمر يبتسم لنا، نعم كان الثمر يانعًا خاليًا من الشوائب، وعروق الملوخية تشرئب نحو السماء.

مجتمعنا اليوم مليء بالقُرّيص والأعشاب الضارة.
ولن نجني محصول الأمن والأمان والاستقرار إلّا باجتثاثه واقتلاعه من جذوره.