|
|
![]()
![]()
![]() ![]()
![]()
|
د. نائلة تلس محاجة: لغة الأم… إيقاع الروح وسر الإدراكالتاريخ : 2025-02-21 23:42:29 |![]() ** يصادف اليوم اليوم العالمي للغة الام فكان هذا المقال عن لغة الأم... إيقاع الروح وسر الإدراك! في رحاب اللغة، حيث الحروف ترسم معالم الهوية، وحيث الكلمات تتشابك كضفائر الذاكرة، يولد الفكر، يتجسد، يتمدد، ويتلون بمكنونات الروح. لغة الأم ليست أداة تواصل فحسب، بل هي رحم الوجود، وهي الينبوع الذي يروي ظمأ الوعي، والجسر الذي يعبر بنا من الذات إلى العالم. إنها ذاكرة العقل الأولى، والمسرح الذي تتحرك عليه مشاهد الفكر منذ لحظة التكوين. اللغة... بوابة الإدراك الأولى حين يلفظ الطفل أولى كلماته، لا تكون مجرد أصوات عشوائية، بل هي بذور الفهم، إشارات أولية لما يستقر في ذهنه من تصورات وانطباعات. إن الكلمات التي يتلقاها من أمه، والتي تتردد في أذنيه منذ ولادته، أبعد من كونها وسيلة تخاطب، بل هي مفتاح الإدراك، ولبنة الأساس التي تقوم عليها بنية تفكيره. كما قال الفيلسوف الألماني لودفيغ فيتغنشتاين: "حدود لغتي تعني حدود عالمي". فحين يمتلك الإنسان لغته الأم، فإنه يمتلك القدرة على تشكيل رؤيته للعالم، أما إذا فقدها، فهو يفقد جزءًا من إدراكه ذاته. العقل لا يفكر في الفراغ، بل يحتاج إلى قوالب لغوية يصوغ من خلالها أفكاره. حين يتلقى الطفل العالم بلغته الأم، فإنه لا يكتفي بفهم الأشياء، بل يعيد تشكيلها، يمنحها أسماء، يحيطها بتراكيب لغوية تجسد تجربته الخاصة. إن لغة الأم ليست وعاءً للفكر فحسب، بل هي نسيج الإدراك ذاته، إذ تُخيط على أنوالها أقمشة المعرفة، وتتشكل من حروفها معمارية نسيج المنطق والاستنتاج.
لغة الأم هي المختبر الأول للعقل، والمهد الذي تتشكل فيه الأفكار قبل أن تتجسد في كلمات. إن الإنسان لا يُفكر في فراغ، بل يحتاج إلى حقل لغوي يلتف حول وعيه، يحمله عبر مجاهيل الإدراك، ويضيء زواياه الخفية. فكما أن الماء هو أصل الحياة، فلغة الأم هي أصل التفكير، بها تتشكل المفاهيم، ومنها تُبنى القناعات، وبداخلها تولد الاستنتاجات. إنها ليست مجرد وعاء يحوي الفكر، بل هي القالب الذي يتشكل به، والمعمار الذي تُبنى عليه لبنات الاستدلال. إن التفكير بدون لغة أشبه برحلة في متاهة بلا خريطة. فلغة الأم ليست رموزًا صامتة نخطّها أو أصوات ننطقها، بل هي الشبكات الذهنية الذي يحيك بها العقل تساؤلاته، ويخيط به إجاباته. إنها العدسة التي يرى بها الإنسان العالم، والنغمة التي تتناغم بها أفكاره في سيمفونية الفهم والإدراك. حين يُجبر الإنسان على التفكير بلغة ليست لغته الأم، كأنما يُنزع من تربته الأصلية، فيتحول فكره إلى كائن مُعلق في الفراغ، يبحث عن جذور لا يجدها، وعن هوية لا يستطيع أن يراها كاملة. وكما قال جورج أورويل: "إذا دُمّرت اللغة، دُمّر الفكر معها." فاللغة ليست مجرد أداة للتفكير، بل هي الإطار الذي يحدد حدوده، والجسر الذي يربط بين الفكرة ومعناها. إن من يُفكر بلغة غيره، يرى العالم عبر زجاج مُعتم، تتلاشى فيه ألوان الفكر، وتنطفئ فيه حرارة الإحساس. إنه كمن يسكن بيتًا بلا نوافذ، حيث لا يستطيع أن يرى انعكاس صوته، ولا أن يشعر بدفء كلماته، بل يسمع صدى غريبًا لا يشبهه، لا ينتمي إليه. إن العلاقة بين لغة الأم والتفكير ليست علاقة تبعية، بل علاقة وجودية، فإذا ضعفت الأولى، ترنّح الثاني، وإذا انطفأت، أُطفئ معها وعي الإنسان بذاته. فلغة الأم هي المرآة التي تعكس عمق الفكر، والحديقة التي ينمو فيها، والمنبر الذي يُعلن منه وجوده. حين تنطق الروح بلغتها تستنبط الإبداع في جوهره لتصهر التجربة الذاتية في كلمات تعكسها بوضوح وعمق، وما من لغة تمنح صاحبها حرية التعبير مثل لغته الأم. حين يكتب الإنسان بلغة ليست لغته، يشعر وكأنه يسير على أرض ليست له، تحاصره الحدود، ويثقل قدميه الغبار. أما حين يكتب أو يتحدث بلغته الأم، فالكلمات تنساب كجدول رقراق، تحمل بين طياتها نبض القلب وإيقاع الروح. قال نيلسون مانديلا: "إذا تحدثت مع إنسان بلغة يفهمها، فإنك تخاطب عقله، لكن إذا تحدثت معه بلغته الأم، فإنك تخاطب قلبه". فهي نغمة الروح، وصوت الفطرة، وإيقاع الوجدان. لغة الأم هي ذاكرة جمعية، خزانة الإرث، وسجل الهوية. إنها الحبل السري الذي يصل الفرد بأجداده، والنهر الذي يجري فيه تاريخ الجماعة. كل لغة تحمل في مفرداتها روح شعبها، تتسرب عبر تراكيبها حكايته، تختبئ في أصواتها تقلبات الزمن، وتنضح من دلالاتها فلسفته في الوجود. فمن يتخلى عن لغته، يتخلى عن جزء من هويته، عن ذاكرته، عن صوته في التاريخ. إن تآكل لغة الأم لا يعني فقط فقدان وسيلة تعبير، بل يعني طمس الذاكرة، وقطع الجذور التي تربط الأفراد بأرضهم، بتاريخهم، بأصوات الأمهات في الليالي الباردة، بأهازيج الأفراح، ودموع الفقد. من يضيع لغته، كمن يُجبر على العيش بلا ماضٍ، بلا جذور، بلا امتداد. في زمن العولمة، حيث تسعى اللغات القوية إلى بسط هيمنتها، تقف لغة الأم في معركة مصيرية. كثيرون يظنون أن الانتقال إلى لغة أخرى هو مجرد تبديل وسيلة، لكنه في الحقيقة تفكيك لهوية، وإعادة تشكيل للوعي بظلال غريبة. ليست المسألة في أن نتعلم لغات أخرى، فذلك ضرورة، بل في أن لا نسمح لأي لغة أن تقتلعنا من جذورنا. قال الفيلسوف الهندي رابندراناث طاغور: "لا يمكنك عبور البحر بمجرد الوقوف على الشاطئ والتحديق في الماء". وهذا حال لغتنا الأم، لا يكفي أن نفتخر بها في المناسبات، بل يجب أن نحملها في وعينا، في كتاباتنا، في أصواتنا، في أجيالنا القادمة. إن الدفاع عن لغة الأم ليست ذكرى عابرة من الماضي، بل هو صيانة لمستقبل الفكر. إنها معركة لا تقل أهمية عن معارك الأرض، لأن من يخسر لغته، يخسر القدرة على قول "أنا" كما يجب أن تُقال. حين نفقد لغتنا، نصبح غرباء عن أنفسنا، مجرد ظلال على جدران الآخرين. إنها نبض الفكر، وجذور الهوية، ونافذة الروح. بها نحلم، بها نتألم، بها نضحك، بها نحب، بها نعيش. إن الحفاظ عليها ليس رفاهية ثقافية، بل هو حماية لجوهر إنسانيتنا. كما قال محمود درويش: "هويتي هي أني نجوتُ ورأسي مليءٌ بالندوبِ، وهويتي هي لغتي الأولى". إنها ليست مجرد كلمات ننطقها، إنها ذاكرتنا الحية، وهي بيتنا الأول، الذي مهما اغتربنا، سنعود إليه حين نبحث عن أنفسنا.
تعليقات الزوار Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/include.php on line 0 ![]() Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /home/almsar/domains/almasar.co.il/public_html/admin-aps/plugins/comments/ARA_load.php on line 0 ![]() |