د. محمد حبيب الله: فاروق شوشة ولغتنا الجميلة (في ذكرى مرور سنتين على وفاته)

التاريخ : 2018-11-21 22:52:54 | في الصورة: الشاعر الراحل فاروق شوشة

مَن مِنا لم يتعايش مع فاروق شوشة صاحب "لغتنا الجميلة" ذي الصوت الإذاعي الرخيم، الذي كنا نطرب لدى سماعه ليتغنى بها فتدخل قلوبنا وافئدتنا بلا استئذان.

لقد حملت لنا الأنباء خبر وفاته في الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول (2016)، لكنّه مات جسدًا وبقي روحًا تُحلّق في سماء لغتنا الجميلة، فارتبط اسمه باسمها وبقي ما تركه صوتًا رخيمًا نروق لسماعه وغذاء وزادًا لأرواحنا ونغمًا حلوًا على ألسنتنا. لقد عاش فاروق شوشة فاروق شوشة واللغة العربية وجمالها ضوان لا يفترقان، واقترن اسمه بهذه اللغة الجميلة التي قيل فيها:
لغةٌ إذا وقعت على أسماعنا
كانت لنا بردًا على الأكباد

عاشر فاروق شوشة اللغة وتنفّسَها على مدى أكثر من سنين عامًا وذلك من خلال عمله مذيعًا في "إذاعة القاهرة" ثم مديرًا لها ومن خلال برنامجه الإذاعي المعروف تحت اسم "لغتنا الجميلة" لدرجة ان هذه اللغة امتزجت بروحه ونفذت من خلال برنامجه هذا إلى أفئدتنا، فجعلتنا نحن بدورنا نعيشها معه، يقول الكاتب مفيد صيداوي في مقال كتبه عنه في مجلته "الإصلاح" غداة وفاته: "كنا نتحلّق حول المذياع لسماع مقاله الأسبوعي الذي كان يُنشر في نفس اليوم في صحيفة "الأهرام" القاهرية العريقة... وكان بعضًا يستمع ويكتب المقال ويحتفظ به، وقبيل الحادية عشرة ليلاً بخمس دقائق من كل ليلة منذ عام (1967)م... نسمع صوت فاروق شوشة يشنّفنا بصوته العذب الجميل ويطوف بنا... بين شعراء لم تكن على علم ببعضهم والبعض الآخر عرفنا بعض أشعاره، كان يقدّم نماذج شعرية من أبهى وأروع ما كُتِب بِحِسِّه الشعري الجميل وحسن اختياره للنصوص وإبداع صوته في التقديم لهذه النصوص، مما يجعلنا نحلو لنوم هادئ أهدانا إياه فاروق شوشة، وفي الصباح عندما كنا نلتقي معًا، كنا نسأل بعضُنا البعض من مِنّا لن يستمع لفاروق هذه الليلة.. وأحيانًا نتناقش عن جمالية البرنامج تلك الليلة... البرنامج الذي سَحَرنا وأسَرَنا بصوته العذب.
انتقل فاروق للتلفزيون وقدّم برنامجنا منذ عام (1977) بعنوان "أمسية ثقافية"، لقد بقي فاروق شوشة حارسًا للغة الضاد يكتبها في إشعاره ويجمع ما أذاعه منها ليخرج لنا بعد حين في كتابه المعروف "لغتنا الجميلة" والذي أغنى به المكتبة العربية ويكتب أخرى وصلت إلى أكثر من أربعة عشر كتابًا بين السنين 1966 إلى ما بعد سنوات الألفين منها: "إلى مسافرة" (شعر) (1966)، و"لعيون المحترقة" (شعر) 1972 وفي "انتظار ما لا يجيء" (1979) و "لغة من دم العاشقين" (1986) و "يقول الدم العربي" (1988) و "الجميلة تنزل إلى النهر" (2002)، ويلقب الكاتب مفيد صيداوي انتباه القراء لوجود العديد من حلقات برنامجه "لغتنا الجميلة" حيث كتب أحلى (20) قصيدة في الشعر العربي وكتب أحلى ف الحب الإلهي... وبالإمكان الاستماع إليها بصوته..." وقد أورد مفيد صيداوي ما قاله ابن بلده عبد الرحمن مقلد ابن دمياط في رثاء فاروق شوشة "لا أزال أتذكر وأنا طالب في الصف الأول من دار العلوم... أن كانت هناك ندوة له حضرتها... وكنت في هذه الوقت انبهر برؤية أي شاعر... فما بالك بإبن بلدي، جلست طوال الندوة التي تجاوزت الثلاث ساعات وأنا مُنخطف بكل ما يقوله فاروق شوشة. ولا أزال أتذكر القاء قصيدته في دار العلوم والتي مطلعها:
هل تَسَمّحْتَ عِطرها وهي تخطط
أنت سطر بها وحرفٌ وخطٌّ
وأتذكر حماسة أحدهم له حينما حيّا فاروق شوشة ببيتي الشاعر أحمد مخيمر في مديحه قائلاً:
فاروق شوشة شاعرٌ مُتَمَكِّنٌ
دار العلوم بشعرْ تتباهى
لو أنّه في أمّةِ وننيّة
جعلته للشعر والجميل إلهًا

صحيح ان اللغة العربية عند من يُحسن تذوّقها وسماعها جميلةٌ، في جرسها وكلماتها وتعابيرها وحلوة في تراكيبها وذلك حين نخضعها لقوانين البلاغة المختلفة إلا أن فاروق شوشة كان من الذين اتقنوا التعامل معها في برامجه الإذاعية وعلى رأسها برنامج "لغتنا العربية" وفيما كتب وألف... لذا كان الناس ينتظرون مقالاته لمعانتها وينتظرون سماعه من خلال إذاعة "صوت العرب" وينتظرون برنامجه "لغتنا الجميلة"... والذي كان يذاع كل يوم، وقبل الحادية عشرة ليلاً بخمس دقائق منذ عام (1967). وخير ما اختتم به هذا المقال قصيدته "هل تذكرين":

هل تذكرين!؟
شعر: طيب الذكر فاروق شوشة

إذا رنَّ صوتُكِ في مَسمَعي
وطَوَّفَ في العالِم الأوسَعِ
رأيتُكِ في كل شيْ معي
وأطرَقتُ أصغي إلى همسةٍ
تُرَفرِفُ في خافقي المولِع
***
بِأعماقِ عينيكِ أبصرتُ حبي
وأبصرتُ واحة أمني وخصبي
تفجر دنياكِ خاطري
ترانيمُ شوقٍ توسدنَ قلبي
فيا طائري الحلو، عيناكِ أفقي
وخطوكِ لحني، ودربكِ دربي
***
غدًا... سوف يعبر يومي غد
وتمتد خلف رؤانا يدُ
تطرق أيامنا بالحنان
ليجمعنا في غدٍ موعد
ويرتاحُ قلبي إلى شاطئ
يطوف فيهِ الهوى الأسعدُ
غدًا... إن نعش هوانا غدُ
***
سأذكُرُ بارقة من حنينٍ
أضاءت بقلبي فراغَ السنينِ
وأذكرُ موجة حبٍ دفينٍ
تُداعبُ أحلامنا كل حين
وتطفو على صفحاتٍ العيون
سأذكُرُ ما عشتُ... هل تذكُرين!؟