ايمن الجندي: هذه الحيّة الخبيثة التي تلدغ القلب

التاريخ : 2016-01-11 10:42:03 |

الكتابة ليست فى جميع أحوالها عملا مُفرحا. أحيانا تكون مجرد حيلة لإزاحة الحزن إلى قلوب القراء ليحملوه عنى. ولكن ليس أى حزن. إنه الحزن الشديد الذى يُصدّع القلب. يقرضه بمناشير من حديد، يتركنى فى حالة يُرثى لها. «عزيز نيسين»! الكاتب التركى اليسارى لم أكن أعلم وأنا أبدأ قراءة كتابه «ذكريات من المنفى» أننى على موعد مع حزن من هذا النوع.
تبين لى أنه يحكى طرفا من سيرته الذاتية. الفارس النبيل الذى تجرّع فى طفولته مرارة الفقر، فسخر حياته من أجل ألا تتجرع الأجيال القادمة غصاصة البؤس. فماذا كانت النتيجة؟ سجن وفصل وتشريد وبهدلة؟ ثم حكمٌ بالنفى فى مدينة بورصا.

أعظم كاتب ساخر فى تاريخ تركيا يدفعه عساكر الدرك كالمجرمين لتسليمه إلى قسم الشرطة. مكبلا بالأصفاد، حليق الرأس، يحمل على ظهره المتعب متاعه القليل ملفوفا فى بطانية عتيقة. سرواله أشبه بالبيجاما، وعلى وجهه ملامح الجوع الشديد والبرد. هو ملزم أن يوقع فى قسم الشرطة صباحا ومساء حتى تنتهى فترة النفى. لكن المشكلة أنه بلا مأوى. وقروشه قليلة. والثلج يتساقط مثل القطن المندوف. وهو جائع إلى حد تعجب فيما بعد كيف استطاع أن يتحمله ولا ينتحر! مظهره مزرٍ ولا يتخيل أحد أنه أغزر الكتاب فى تركيا إنتاجا. أى موقف صغير يستطيع تحويله إلى قصة تجعلك تنثنى على نفسك من الضحك. وإنه ليجلد الطغاة الصغار بسياط من سخرية. وكلما فتح جريدة أغلقوها على الفور. الكل يحلف بحياته. تركيا بأسرها تحفظ قصصه وتعشق رسوماته الساخرة. ومقالاته يرددها الناس عن ظهر قلب. لكنهم يفعلون ذلك خلف الأبواب المغلقة بعيدا عن الرقباء. كلهم يؤثرون السلامة. المناضل الفذ تجاهله الجميع. زميله فى المدرسة الثانوية صار الضابط الخطير الذى يتسلمه. أصدقاؤه القدامى يهربون منه. وحتى الشاعر يطلب منه فى إلحاح ألا يزوره مرة أخرى. إنهم يعرفون أنه رجل عظيم، ولكنهم يسجدون لمصالحهم الصغيرة. ليس لعزيز نيسين من رفيق غير الجوع والبرد.

وحتى البسطاء الذين ناضل من أجلهم، فإنهم يعتبرونه ملحدا ومرتدا. التهمة الخالدة التى يلصقها الطغاة بالنبلاء! فهنيئا لهم تقواهم الزائفة. وهنيئا لهم مطامعهم الصغيرة. وهنيئا لهم سلامة الجبناء.

كانت دموعى تسيل وأنا أقرأ تفاصيل الحياة البائسة. ولم أملك نفسى إلا أن ألومه فى كل موقف. وأخاطبه كأنه يسمعنى. لماذا يا عزيز نيسين لماذا؟ هل يستحق هؤلاء أن تدفع هذا الثمن الباهظ من أجلهم؟ يا أخى يكفيك أنك لم تناصر الباطل. فلماذا تقف وحيدا كطود؟ شامخا فى وجه الريح كجبل أشم؟ كنت تستطيع بموهبتك الخارقة أن تظفر برغد العيش. تعيش هانئا وتموت مكرما وكفى الله المؤمنين القتال.

لكنى كنت أعرف الحقيقة. عزيز نيسين لم يكن بوسعه سوى ما فعل. إنه شىء لا حيلة له فيه. ولا يستطيع إلا أن يكون إنسانا. هذه اللوعة الجارفة إذا صادف الظلم. هذه الرغبة الحارقة فى نصرة الضعفاء. هذه الحية الخبيثة التى تلدغ القلب. تجعله لا يرتاح إلا أن يصدع بكلمة الحق. وسيّان إن عاش بعدها أو مات، تعذب أو تشرد، جاع وارتجف من قسوة البرد.

عزيز نيسين: أعتذر لك باسم جميع قليلى الحيلة عن هذه الدنيا الظالمة التى عذبتك. أعتذر وأنتظر يوما لا ريب فيه، يوم الحساب. يوم ينصب الله الميزان بالقسط،

لا ظلم اليوم. لا ظلم اليوم.