احمد كيوان: ما بعد القمة التاريخية في هلنسكي!

التاريخ : 2018-07-20 07:43:33 |

وصفها الكثيرون بأنها قمة تاريخية، تلك التي حدثت بين الرئيس الروسي بوتين والرئيس الامريكي ترامب في هلنسكي، عاصمة فنلندا. وهي كذلك لأنها لم تكن لقاء عاديا جمع زعيمي دولتين عظميين، للبحث في العلاقات الثنائية او بعض الامور العابرة والجارية. فالقمة التي جرت تكمن اهميتها وتاريخيتها بأنها جاءت لتضع اللمسات على قضايا معقدة وصعبة، من اجل ايجاد الحلول لها في اطار جديد، يتخطى هيمنة القطب الواحد ومقاربته بدون شريك في فض النزاعات الدولية. وهذا اول اعتراف امريكي وعلى اعلى المستويات بان واقعا دوليا اخذ يتشكل، لا احادية فيه لقطب من الاقطاب. وهذا يحدث للمرة الاولى منذ تفكك الاتحاد السوفياتي. وهو مؤشر جيد بان امريكا لم تعد سيدة العالم لوحدها، ومن هذه الناحية تحديدا يمكن اعتبار الرئيس بوتين الرابح الاكبر من عقد هذه القمة التاريخية.

 ومع اننا لا نعرف شيئا عن فحوى الاجتماع المغلق الذي جمع الزعيمين وما هي الامور التي اتفقا عليها بعيدا عن اعين وسائل الاعلام، إلا انه وباليقين القاطع جرت تفاهمات عدة في اللقاء المغلق، وان لم يكن كذلك فلم تكن هناك حاجة لمثل هذه اللقاءات الثنائية المغلقة. وهذا لا يعني انه تم الاتفاق على كل شيء، فالمؤتمر الصحفي الذي عقده الزعيمان تخللته نقاط خلاف لم يتم حسمها. وهذا شيء طبيعي، لأنه ليس بمقدور قمة واحدة ان تحرك كل المياه الراكدة في كل الأماكن. على الاقل هذه بداية جيدة ومؤشر ايجابي يمكن ان يستثمره الرئيس بوتين لحسم الامور في الملفات التي تعنيه مباشرة، وخاصة الملف السوري والملف الأوكراني. ونحن نرى الآن او نكاد نرى تسارع وتيرة حل الازمة السورية، بعد ان فشلت الحرب التي فرضت على هذا البلد العربي في تحقيق اهدافها في تفتيت الدولة السورية، وتقسيمها الى كيانات عرقية ومذهبية. وأظن ان الادارة الامريكية الحالية قد ادركت ان روسيا وحلفاءها في سوريا قد كسبوا المعركة بعد كل هذه الحرب الصعبة والثقيلة، وان الرئيس بشار الاسد قد كسب الحرب، وان هذه احدى اهم حقائق وافرازات السنوات الثماني الاخيرة. وليس صدفة ان ترفع امريكا الغطاء عن مسلحي درعا والجنوب، وهم من اخطر الجبهات التي واجهها الجيش العربي السوري، فكان امرا طبيعيا ان تنهار هذه الجبهة وبهذه السرعة، لأنه لم يكن امام الداعمين لهؤلاء المسلحين إلا الإقرار بالهزيمة ولو بشكل غير مباشر، من خلال عدم تقديم الدعم لهم كما كان في السابق.

وحين يعود الجنوب السوري بما فيه محافظة درعا الى حضن الدولة السورية، فان هذا يعني ان الحرب على سوريا اصبحت في خواتيمها. ولهذا كانت هناك ضرورة لمثل القمة التاريخية في هلنسكي. اما تلك الجيوب التي بقيت في الجنوب السوري، وتحديدا في محافظة القنيطرة، ففي معظمها تابعة لجبهة النصرة وداعش، والى حد ما لما كان يسمى "الجيش الحر". وهذه الجماعات الارهابية المسلحة كانت مدعومة طيلة الوقت من الاحتلال الاسرائيلي، الذي كانت له اهداف بعيدة المدى في سوريا، لو نجح المخطط الذي رسموه لسوريا. ولان اسرائيل ايقنت ومنذ مدة انه لا امل لبقاء هذه المجاميع المسلحة التي تعاونت معها، وان دور القضاء عليها وتحرير الجولان منها بات مسألة وقت لا غير، فقد حاولت عبر كل وسائلها بما فيها العدوانية على سوريا والحلفاء البحث عن ترتيبات تمنع الجيش العربي السوري من الوصول الى خطوط وقف اطلاق النار.. حاولت ذلك مع الامريكي، ومع الروسي من خلال زيارات الاستجداء المتكررة لنتنياهو عند بوتين. وكل ما يمكن ان يقدمه هؤلاء لنتنياهو بمن فيه الروسي هو العودة لاتفاق فصل القوات للعام 1974. وهو بالنسبة لإسرائيل، وبعد كل هذا الإنغماس والإنجرار في الازمة السورية، ولسان حالها يقول: "كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا!!". فالمؤتمر الصحفي لكلا الرئيسين الروسي والأمريكي لم يتحدث عن حزب الله، او قوات ايرانية "يجب ان تكون بعيدة عن الجبهة"، وهي غير متواجدة اصلا على الارض السورية. وهذا التدبير هو اقصى ما يمكن ان يقدمه الروسي لإسرائيل. وقد ربطه بوتين بجملة قالها في المؤتمر الصحفي، وربما لم تثر اهتماما مناسبا، حين قال: "يجب العودة في اقرب وقت لتطبيق القرار 338". وهو قرار اممي صدر بعد حرب 1973، ويدعو صراحة الى انسحاب اسرائيل من المناطق المحتلة (بما فيها الجولان السوري)، وعقد مؤتمر دولي للسلام لتحقيق ذلك.

وحين يلوّح الرئيس بوتين بقرارات الشرعية الدولية كمرجعية معتمدة، فهذا يعتبر ضربة قوية للمحتل المتغطرس، والذي ظن ان الجولان المحتل اصبح اسرائيليا، لان الكنيست الاسرائيلي اراد ذلك بـ"قانون" سنّه المشرّع المحتل في غفلة من الزمن. وحين لا يعترض ترامب على ما قاله بوتين، وتحديدا بخصوص الوضع في الجولان، فان ذلك يعني ان هناك تفاهمات روسية - امريكية بهذا الشأن. ولكي لا تلجأ اسرائيل الى المغامرة من اجل التخريب على انجازات الجيش العربي السوري في الجنوب، فان الطيران الحربي الروسي هو الذي يقوم بقصف مقار وتمركزات المجاميع المسلحة في ريف القنيطرة، حتى يضطروا الى  القاء السلاح والمغادرة، او الموت في المواجهة العسكرية. وهذا ذكاء روسي يمنع اسرائيل من التعرض للطائرات الروسية، ويفسد عليها مكرها، ويحد من حركتها.

 والامتحان مستقبلا هو الخضوع بالمنطق السليم الى القبول بالانسحاب من الارض السورية والعربية، لتغليب الحل السلمي وتجنيب المنطقة جولات من المواجهة ستكون باهظة الثمن. وإذا قبل السوريون اليوم بالعودة الى اتفاق "فصل القوات" للعام 1974، فهذا لا يعني العودة الى حالة الهدوء التي استمرت لأربعة عقود، بلا حرب وبلا سلم..!!