د. أحمد محمود إغباريّة: أمّ الفحم وأمّ كلثوم...!

التاريخ : 2018-09-15 13:01:12 |

أمّ كلثوم صوت من عالم الغيب، هبط علينا كورقاء ثمّ آب إلى دياره، لكنّه لم يتركنا ونحن على حالنا. أمّ كلثوم لغة الوجود الصّافي والوجدان الأصيل. صوت مكتنز بكلّ طاقات البوح الإنسانيّ ترك أثرًا في النّفوس لا يكاد ينفكّ عنها، بل يكاد يتحوّل فطرة ينشأ عليها كلّ سويّ الشّخصيّة.
**
أمّ الفحم اليوم مدينة جاحدة للفنّ. مدينة للذّكور تلعن الأنثى وتكفر بالفنّ. تدير ظهرها لصوت تراه عورة. الوجوه المتشنّجة والمقطّبة تنفر من الجمال، ولا تستسيغ الصّوت السّماوي الرّخيم وتأنف منه!
أمّا أنا فلي قصّة أخرى..
صيف 1982. مساء قائظ. حصار في بيروت وانقطاع للتيّار الكهربائيّ. لا مجال لمشاهدة المونديال الأسطوريّ في ذلك المساء، ولا حتّى المسلسل اليوميّ الذي كان يبثّه التلفزيون الأردنيّ. أومأ لي والدي فأحضرت الرّاديو وشغّلته على البطّاريّات، فإذا بصوت أمّ كلثوم يبدّد الظّلمة وينيرها ويرطّب جفاف ذلك المساء. كانت أغنية "أغدًا ألقاك"، وكان المقطع "أنتَ يا جنّة حبّي واشتياقي..". استولى المقطع على مشاعري الجامحة التي خرجت منّي ودخلت منطقة غريبة وصارت تتحدّث بلغة لا أفهمها. كان هذا أوّل عهد لي بالـ"ستّ". من يومها أصابني الوَلَه، ومن يومها وأنا أتردّد على مكتبة "الغفاريّ" لاقتناء أغانيها المسجّلة على شرائط الكاسيت. بعد أسابيع من هذه الحادثة، دخل المرحوم والدي عليّ في الغرفة حيث كنت أنام، فألفاني أعبث ببعض الأشرطة، نظر إليها فوجد أنّ جميعها لأمّ كلثوم. هزّ رأسه مبتسمًا وردّد جملة لا أنساها: "تَكَلْثَمَ أحمد.!".
في العام التّالي، قام الأستاذ أحمد عبد الله (من مصمص) بتدريسنا عدد من أبيات قصيدة "أراك عصيّ الدّمع"، قلتُ له أثناء الدّرس بأنّ أمّ كلثوم تغنّي هذه القصيدة، فاستغرب معرفتي بموضوع هو من اهتمامات "الكبار". وحين أضفتُ له بأنّها من تلحين رياض السّنباطي، خلتني أصبته بمقتل، إذ كيف لطالب في الصّفّ السّادس أن يعي مثل هذه التّفاصيل؟! انتهزت حالة الوجوم التي اعترت وجهه، وبادرته بأنّ بإمكاني- لو أذِنَ لي- إحضار جهاز التّسجيل للاستماع إلى الأغنيّة. وهكذا كان..
صارت أمّ كلثوم بعد ذلك واقعًا يوميًّا. بدأت أتحسّس ذاتي وأتعرّف عليها من خلال صوت أمّ كلثوم. بدأت مشاعري وأفكاري تتطوّر وتتمدّد من خلال صوت أمّ كلثوم. عشت مع صوت أمّ كلثوم طفولتي، ومراهقتي وشبابي. أمّ كلثوم التي وَحّدت العرب أكثر من أيّ زعيم عربيّ، صارت تُشعرني برجولتي حتّى وأنا غضّ غرير. ربّيتُ عواطفي على "رقّ الحبيب" و"الأطلال" و"يا ظالمني". اكتشفت صوفيّتي الدّفينة في "القلب يعشق كلّ جميل"، ووجداني في "الأوّله في الغرام" و"أقبل الليل"، وتلمّست الفلسفة لأوّل مرّة في حياتي في "رباعيّات الخيام"، فصارت بعد ذلك دأبي وديدني. اكتشفت العنفوان الأنثوي في "حيّرت قلبي معاك"، وتعرّفتُ على أمّ كلثوم الإنسانة في "سلوا كؤوس الطّلا" حين تحدّثتْ هي عن نفسها..
**
لكنّ مدينتي اليوم جاحدة للفنّ، تضرب صفحًا عن هذا الصّوت الذي يتاخمنا بالخلود، تقتل أيّ إحساس بالفرح، أيّ انتشاء، أيّة غبطة.. ولذلك يجفّ الجَمال من دخيلتنا مثلما تجفّ الوردة في غربة البوادي حيث لا غيوم، ولا ماء، ولا حتّى قطرة طلّ..